توطئة نقدية

الشعر العربي الحديث

 

توطئة نقدية

 

(1)

 

تقدم هذه الموسوعة الفنية المتمثلة في معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين سِيَرًا موثقة و نماذج متنوعة لجميع من أمكن الوصول إليهم ممن يستحقون أن تطلق عليهم صفة الشعر، و هي - من ثم - تتضمن تسجيلاً أمينًا للمادة الشعرية المعاصرة، و تعريفًا دقيقًا بالشعراء، و ذخيرة فنية تتيح للجمهرة من نقاد الشعر و دارسيه إلمامًا جيدًا بتضاريس الخريطة الشعرية المعاصرة، و ما تعاورها من تيارات ومدارس أدبية.

 

وإذا كان المعجم بما يضمه بين دفتيه من مادة شعرية ثرية يتيح تحقيق هذه الأغراض متفرقة أو مجتمعة، فإن هذه التوطئة النقدية تهدف إلى إضاءة الخلفية التاريخية التي استقامت عليها هذه المادة، ورسْم الإطار العام للظروف الثقافية والفنية التي أرهصتْ بها، و تصوير المهاد العام الذي درجت عليه حركة الشعر العربي الحديث، و تخطيط الملامح المشتركة لتجليات هذه الحركة عبر البيئات الإبداعية المختلفة، فلعلنا، على هدْي من هذا وذاك، أن نصل إلى الاقتناع، أو ما يقرب من الاقتناع، بأن الشعر العربي الحديث إن اكتسى في منابته المتنوعة بأردية محلية متفاوتة الأصباغ و الألوان، فإنه في التحليل الأخير ينزع منزعاً فكرياً مشتركاً، و يسلك في التطور درجات متقاربة الملامح و القسمات، ثم يصب في تيارات وأنهار فنية تكاد تكون محكومة بقوانين وأعراف تاريخية وجمالية لايعوزها التناغم والانسجام.

 

و من البدهي أن صفة «الحداثة» التي اقترنت بهذا الشعر منذ بواكير النهضة في مطالع القرن الماضي لا يقصد بها إلى «الحداثة» بمعناها الفني المعاصر، و إنما تشير هذه الصفة إلى حقبة من الزمن ذات حدود خاصة، و معالم مميزة، و هي الحقبة التي تلت العصور الوسطى وما سبقها، و من هنا كان طبيعياً أن نرى تلك الصفة التي ميزت مساحة إبداعية معينة تُستخدم في ذات الوقت قرينة للعصر الذي استغرق هذه المساحة، فيقال «العصر الحديث» تمييزاً له عما سبقه من عصور.

 

و رغم أن هذا العصر في إطاره العام لا يتجاوز قرابة قرنين من الزمان، وهي فترة قصيرة نسبياً في أعمار آداب الأمم فإنه بحكم ما حفل به من تطورات ثقافية وفنية يعدل قروناً مما سبقه من مراحل في عمر الشعر العربي، وصحيح أن إيقاع التطور في بداية هذا العصر لم يكن بنفس السرعة التي شهدتها أواخره، بل نكاد نقول إن هذا الإيقاع لم يطفر طفرة ذات بال طيلة النصف الأول من القرن التاسع عشر، ولكن ذلك لم يكن راجعاً إلى غياب الشروط الأساسية للنهضة، بقدر ما كان راجعاً إلى أن النهضة كمحصلة قيمية تقتضي وعياً، والوعي يقتضي إدراكاً، وهذا بدوره يحتاج إلى بعض الوقت كي ينتج أثره في البنية الفكرية بمستوياتها المختلفة، بما فيها المستوى الفني.

 

ودون اقتحام التفصيلات التي قد تخرج بهذه التوطئة عن غايتها، فان من المرجح ان يكون أبرز هذه الشروط الأساسية التي حددت أوليات النهضة هو ازدياد تفاعل العلاقات السياسية والاجتماعية والثقافية بين الغرب الأوربي و المشرق العربي، وهو التفاعل الذي جرى العرف على اعتبار الحملة الفرنسية من أهم مظاهره، وصحيح أن الدافع إلى هذه الحملة كان غير إنساني بطبيعته، ولكن الصحيح كذلك أنها لم تخل من أثر في وجدان الشعب العربي، وإن يكن أثراً غير مباشر ولا مقصود، فقد اصطحبت الحملة معها جماعة من العلماء والمفكرين الفرنسيين، فأنشأوا في الشرق أول مطبعة، وأصدروا أول صحيفة، وافتتحوا مكتبة عامة، وأقاموا مسرحاً للتمثيل وبعض المدارس، كما أنشأوا في مصر سنة 1798 مجمعاً علمياً على غرار المجمع العلمي الفرنسي كان من أغراضه نشر المدنية، وبعث العلوم والمعارف، و دراسة المسائل والبحوث التاريخية والطبيعية والصناعية، و نشر هذه البحوث في مجلة المجمع التي خصصت لهذه الغاية، و لعل في جوهر هذه الأغراض ما يلقي بعض الضوء على الآثار الثقافية التي يمكن أن تترتب على إنشاء مثل هذا المجمع.

 

ويمكن القول بأن الأثر الأكبر لاحتكاك الشرق العربي بالغرب الأوربي عبر الحملة الفرنسية قد تبلور في أنه أظهر العرب على مدى التقدم العلمي و الثقافي الذي بلغه الأوربيون، و وضع أمامهم نموذجاً للتطور حاولوا احتذاءه فيما بعد، وأثار فيهم مكامن الدهشة، والدهشة أولى درجات الوعي، و قد قص «الجبرتي» خبر زيارته لبعض مؤسسات الحملة في مصر، وصور مشاعر الاستغراب التي أحسها إزاء بعض التجارب العلمية التي أجريت أمامه، وعقّب عليها بقوله «ولهم فيه أمور وأحوال وتراكيب غريبة ينتج منها نتائج لايسعها عقول أمثالنا»،  ولا شك أن شعور أهل الشرق العربي آنذاك بالهوة التي تفصل بين واقعهم الاجتماعي و واقع الفرنسيين و هو ما تشير إليه قالة الجبرتي كان بالغ الأثر في إيقاظ قوى التقدم، لأن وعي الإنسان بذاته بداية نهضته.

 

إلى ذلك الوعي الإنساني العام يضاف وعي معرفي تمثل في إدراك قيمة العلوم والمعارف التيثبت للشرق العربي من واقع الاحتكاك المباشر أنها سر تقدم الغرب و قوته، و من ثم كان بدء الاهتمام منذ عصر محمد علي بالتعليم على تعدد أصعدته، و بالبعثات العلمية التي كانت ترسل إلى أوربا منذ الربع الأول من القرن التاسع عشر، و كان لها فضل إظهار المبعوثين على أنماط من التفكير و الحياة الأوربيين، و هو ما نرى نموذجاً من آثاره في ما كتبه رفاعة الطهطاوي تحت عنوان «تخليص الإبريز في تلخيص باريز»، و ليس من قبيل المصادفة أن يكون رفاعة، إمام البعثة المصرية إلى فرنسا، واحداً من الرعيل الأول الذي بعث رعشة التجديد في أوصال الشعر العربي إبان القرن التاسع عشر.

 

ناهيك عن أن الصحافة الأدبية وإسهامها البارز في تنشيط حركة الترجمة قد أعانت على توفير المهاد الأول لحركة الإحياء في الشعر العربي الحديث، و قد اقترنت بدايات هذه وتلك بالحملة الفرنسية وما كانت بحاجة إليه من ترجمة الوثائق الرسمية و الإدارية وبعض الكتب العلمية، و قد نهض بهده الحاجة أولاً جماعة من المستشرقين والمتخرجين في مدرسة اللغات الشرقية التي أنشاها لويس الرابع عشر، و من أشهرهم المستشرق «ڤانتورVenture» و المستشرق «جوبيرJaubert»، ثم ما لبثت أفواج من الوطنيين أن انضمت إليهم نتيجة إدخال بعض اللغات الأوربية إلى مناهج التعليم، فكان لذلك أثره في توطيد المعرفة بتلك اللغات وتسهيل النقل عنها، كما كان له أثره في ازدياد عدد من أتقنوا فهم الثقافة الغربية ونقلوها إلى العربية ترجمة أو اقتباسا، نخص منهم بالذكر عبدالله فكري و شفيق منصور و فتحي زغلول و جورج يزيدان و نجيب الحداد، و إذا كانت حركة الترجمة قد اتجهت في البداية اتجاها علميا بحتاً، فإنها ما لبثت مع مطالع القرن العشرين أن امتدت إلى كثير من مناطق الإبداع الإنساني، و توفر كثير منها على ترجمة روائع الشعر الغربي في مختلف لغاته و مذاهبه ترجمة تكاد تقارب الكمال، و تجمع إلى الصياغة الأدبية المشرقة أمانة الوفاء بالنص و استلهام روحه بما لا يجافي الدقة المنهجية.

 

إن هذا اللوحة العجلى التي رسمناها للشروط الأولية التي مهدت للنهضة الفكرية و الأدبية تعني أن هذه الشروط قد شرعت في الاختمار منذ مطالع القرن التاسع عشر، و لكنها تعني و بنفس القدر أن إيقاع هذا الاختمار قد بدأ وئيدًا، يتفاعل في واعية الرواد وذائقة المبدعين، و يتصاعد تفاعله عبر عقود عديدة من الزمن، مقترناً ـ في ذات الوقت بضرب من الجدل الحاد بين المتاح من التراث والحاجة إلى الأخذ عن الآخر، و لا ريب أن هذا الجدل بين طرفين كلاهما لا يخلو من صحة، قد كان أهم ما يسم تيار النهضة منذ منابعه الأولى، كما كان مصدر الكثير من الاستقطابات الأيدلوجية و الفنية و الانحيازات الجمالية و الابداعية، على مدى قرنين من الزمن قطعتهما مسيرة التطور حتى الآن.

 

إن تلك المفارقة بين الاختمار و الانفجار، اختمار الوعي بشروط النهضة، و انفجار التحديث الإبداعي، كفيلة وحدها بأن تفسر لنا كيف أن البيئات الإبداعية للشعر العربي الحديث، على تنوعها شرقاً و غرباً، و شمالاً و جنوباً، كانت بحاجة إلى مرحلة ناهزت قرناً من الزمن، هو القرن التاسع عشر بأكمله، لكي تصل إلى تصوّر جديد لمفهوم الشعر و بناء القصيدة، على حين كانت العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين كافية لكي تعصف بها عواصف المهجريين و الديوانيين و الأبوللونيين، متعاقبة و متواكبة، كما كانت العقود الخمسة التالية متسعة لكي يشهد كل عقد منها قفزة جديدة في التقنية الشعرية، ما بين قصيدة التفعيلة و قصيدة النثر، و من الخطاب المتمركز على وحدة السطر الشعري، إلى الخطاب الذي يتخذ وحدته من الجملة الشعرية، إلى ذلك الذي ينهض على وحدة الفقرة الشعرية، و من البنية الشعرية القائمة على الصوت الواحد، إلى البنية ذات الأصوات المتعددة، ثم البنية المتوازية الأصوات، و التي وصلت على أقلام بعض المعاصرين إلى حدّ «التهميش» على المتن الشعري بتعليقات في ذيول القصائد أو الصفحات، و أحياناً بتعليقات في الفراغات الجانبية، و هي محدثات كتابية يبدو شعراؤنا فيها متأثرين ببعض السوابق الأوربية.

 

و ليس من همّنا في هذه التوطئة أن نتعقب التفاصيل الجزئية الفارقة، بقدر ما يعنينا رصد الملامح المشتركة بين خطوات التطور في البيئات الإبداعية العربية المختلفة، و ربما عادت الرغبة في رصد «المشترك» أكثر من التركيز على «الفارق» إلى اعتبارين: أولهما أن البدايات التطورية التي ظهرت متتابعة في مراكز الحركة الشعرية وأطرافها كادت تكون متشابهة السمات و المراحل، مع اختلاف نسبي يتمثل في أي هذه المراكز و الأطراف تقدم أو تأخر بعقد أو عقود من الزمن، أما فيما خلا ذلك فقد تناغمت العوامل و المعالم و الأطوار، بدءاً من النّفس الإحيائي، و مروراً بالهمّالرومانتيكي، و حتى الانخراط في خضم الموجات التجديدية التي تلبّست في الطور الأخير بصياغات و أنماط تعبيرية خارجة على التقنيات السائدة.

 

أما الاعتبار الثاني فهو أن هذه البيئات الإبداعية إن اختلفت فيما تخلعه على الأداء الشعري من أصباغ محلية، فإنها قد اتفقت في الوعي التاريخي بماهية القول الشعري و وظائفه الحضارية، كما اتفقت في النظر إلى هذا القول بوصفه صوت الوجدان العربي المشترك، بغض النظر عن كل محاولات التفتيت والانكفاء، وليس أدل على ذلك من أن «رعشة الحداثة»  بالمفهوم الزمني لا الفني للحداثة التي أخذت تدب في أوصال فن الشعر العربي مع مطالع النهضة الأدبية قد اقترنت بكثير من تجليات هذه النهضة في آفاقها الوطنية و الاجتماعية على امتداد رقعة العالم العربي، بما يمثله ذلك من بروز الشعور القومي و نمو الإحساس بالمسئولية تجاه المجتمع، و إدراك ما لدى الآخر ـ «الأوروبي بالذات»  من وسائل القوة والسعي إلى تحصيلها، بالإضافة إلى إفساح المجال لعطاءات هذا الآخر كي تمارس ضرباً من الجدل المفيد مع الموروث، و ليس بدعاً ـ لهذا أن نجد أصداء هذا الاقتران بين نمو الشعور القومي و تسارع إيقاع النهضة الشعرية تتردد في الشعر المصري الذي واكب فترة الإحياء و ما زامنها من التصدي للاحتلال الانجليزي و نشوب الثورة العرابية، كما تتردد في الشعر الذي أبدعته قرائح المبدعين في سوريا و لبنان و الأردن و فلسطين إبان الصدام الشهير بين العرب والأتراك، مروراً بالثورة العربية الكبرى و اندحار الجيش العثماني، و إقامة الحكم العربي الأول، مثلما تتردد في شعر مفرق القرنين التاسع عشر و العشرين بالعراق، غداة تلك الأحداث التي هزت المجتمع العراقي و هزت معه ما ركد من مياه الشعر في ذلك المجتمع، و ليس أقل هذه الأحداث ما هو معلوم للكافة من عواصف الانقلاب العثماني، و إعلان الدستور، و ثورة العشرين، و إقامة الحكم الوطني عام 1921، لقد كانت أصداء هذا الاقتران بين الحس القومي و الحس الشعري إيذاناً بتغير جذري في منهج القول المنظوم، كما كانت إيماءً إلى أن شعاب ذلك التغير في البيئات العربية على تنوعها تتجاوب وتنداح كما تنداح السوائل في الأواني المستطرقة.

 

على أن الاقتران بين نمو الحس الوطني و مطالع النهضة الشعرية لا يعني بالضرورة المواكبة الزمنية بينهما على إطلاقها، فمن البدهي أن يتطلب الحس الوطني وقتاً يختمر فيه وتتفاعل معطياته حتى تنضج بواعثه وتنعكس آثاره على فن القول المنظوم، بل إن من البدهي كذلك أن يتفاوت وقت الاختمار طولاً و قصراً بتفاوت الأقطار العربية في ظروفها التاريخية و السياسية و الثقافية، فعلى حين بدأت حركة الإحياء الشعري في مصر مع العقود الأولى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، على أيدي الرواد من أمثال محمود سامي البار و ديو إسماعيل صبري و غيرهما، و تزامن معها في جنوبي بلاد الشام (الأردن وفلسطين) حركة مماثلة أدت إلى ظهور عدد من الشعراء الذين ثقفوا التراث و نالوا حظاً من التعليم الديني في الأزهر الشريف من أمثال يوسف النبهاني و على الريماوي و محيي الدين الملاّح و غيرهم، نرى المدّال إحيائي بكل ما يعنيه من محاكاة التراث و الرغبة في تجاوزه معا، يتمهل في بلاد الشام (سورية ولبنان) إلى وقت الحرب العالمية الأولى و ما أنتجته من آثار قومية و سياسية تغنى بها أعلام هذا المد من أمثال محمد البزم و بشارة الخوري و خير الدين الزركلي و يوسف غصوب و خليل مردم و شفيق جبري و بدوي الجبل و سواهم، و في نفس الآن تقريباً كان الشعر العراقي بعد سنوات من القطيعة مع زخم الحياة ونبض المجتمع يعود لمصافحة الواقع بعنف، خصوصاً ما تعلق من هذا الواقع بالهموم الفكرية و السياسية و الاجتماعية للوطن، و على الرغم من أن هذه الحقبة قد شهدت مجموعة من الأسماء الشعرية الذائعة فإن أحداً منها لم يحقق من الدويّ على الساحة العراقية ما حققته أسماء جميل صدقي الزهاوي و معروف الرصافي و محمد مهدي الجواهري. لقد كانت هذه الكوكبة من الشعراء تجليا ساطعاً للاستغراق الشعري في هموم الحياة و قضايا المجتمع على تنوعها، دون أن يعني ذلك اهتراء الصلة بالتراث أو تعطيل آلية التفاعل معه بطريقة إحيائية.

 

و من المنطقي أن تطول فترة اختمار الوعي الوطني، و أن تتأخر آثارها الشعرية في تلك البيئات التي كانت معوقات النهضة فيها أكثر تراكماً، و مما له دلالة في هذا المقام أن نرى بلداً كالسودان لا يكاد يستقرّبه الحكم التركي بعد غزوه 1821 إلا و تبدأ سلسلة من حلقات الرفض و السخط و التحفز، عبرت عن نفسها شعرياً فيما سمي بشعر العلماء، و الشعر الصوفي، و فيه تلعب المحسنات البديعية و آليات التشطير و التخميس و المعارضة دوراً بارزاً يذكرنا بنظيره في الشعر العربي في مصر المملوكية، و لم يشرع الشعر العربي في السودان في التفلت من آثار هذا الرداء العروضي الصوفي إلا مع أوائل القرن العشرين، و بخاصة على ألسنة و أقلام الرعيل الأول من الخريجين و المتعلمين الذين زاوجوا في تكوينهم المعرفيبين الثقافة الدينية الت يتشربوا بها عبر المدارس القرآنية المسماة «بالخلاوي» و الثقافة المدنية ممثلة في كلية «غوردون» التي كانت تتشكل من قسمين: ابتدائي و ثانوي، و في وهج هذه المزاوجة نضج الوعي الفني عند فيلق من الشعراء الإحيائيين من أمثال الشعراء: محمد عمر البنا، و أبو القاسم أحمد هاشم، و الطيب أحمد هاشم، و عمر الأزهري، و عبدالرحمن شوقي، و صالح عبدالقادر، و غيرهم من الشعراء الذين ارتبط شعرهم بمواسم الإلقاء في المولد النبوي و المناسبات الدينية التي كان يحتفل بها نادي الخريجين، و فيهم جميعاً تجلت الملامح الإحيائية في الحفاوة من جانب بكتب التراث الزاخرة بعيون الشعر العربي القديم، و بخاصة ما عاد منه إلى العصر الجاهلي و العصر الأموي و العصر العباسي، و التأثر من جانب آخر بحركة البعث الشعري التي حمل لواءها البارودي، و بما كان يصل إلى أيديهم من الصحف والمجلات الأدبية المصرية الزاخرة بالطريف والمستحدث من مذاهب الشعر وطرائقه، نظراً و إبداعاً.

 

و ما شهدناه في بيئة الشعر العربي في السودان من اندياح الإطار الزمني الذي ظهرت عبره الحركة الإحيائية يمكن أن نشهده في بيئة بعيدة عنها، و لكنها مقاربة لها من حيث الظروف، فمن الملحوظ أن منطقة الخليج و الجزيرة العربية لم تهب عليها رياح هذه الحركة إلا متأخرة بعض الشيء، و على مفرق القرنين (التاسع عشر والعشرين) على وجه التقريب. و قد نهض بدور الريادة في هذا المقام شعراء مشهورون بانتقالاتهم الأسطورية عبر أرجاء المنطقة على اتساعها، فما يكادون يستقرون بإقليم ليضعوا في تربته بذرة الجنين الشعري الجديد إلا ريثما ينتقلون منه إلى سواه، حتى ليصعب في هذه الحالة نسبة كل منهم إلى مكان واحد لا يتعدّاه، و لئن كان شاعر مثل محمد بن عثيمين أوضح تأثيرا في البيئة المحلية القطرية من حيث إرساؤه لقواعد الشعر الفصيح بها، فإن عبد الجليل الطباطبائي يتميز بتأثير ينداح عبر الأحساء وقطر والبحرين والكويت، كما يتميز بدوره الفعال في تنشيط الجو الثقافي العام وإذ كاء جذوة الشعر في المنطقة بكل رحابتها، وكان بمجمل هاتيك السمات ممهداً لحركة الإحياء الشعري التي عمت هذه المنطقة بعده بوقت وجيز، كما كان نموذجاً للشاعر المبدع الذي يجسد بفنه وسلوكه معا وحدة تراث المنطقة وحاضرها، ولعله قد قام في بعث ديباجة القصيدة العربية في الخليج بنحو مما قام به نظيره المصري محمود سامي البارودي في ساحة الشعر العربي في مصر.

 

و يمكن ان نضيف إلى جهود ابن عثيمين والطباطبائي في الساحة الشعرية العربية في الخليج جهود الشعراء محمد حسن المرزوقي و عبدالرحمن بن درهم وعبدالرحمن بن صالح الخليفي الذين أرهصوا مع مطالع القرن العشرين ببواكير حركة شعرية تقليدية في قطر، و رغم قلة أشعارهم، و ضياع بعضها أو عدم وصوله إلى أيدي المتلقين، فإن مجمل إنجازهم في الموضوعات والأساليب والأفكار و الصور يعد امتداداً لنهج ابن عثيمين، و إن لم يبلغوا مبلغه من حيث طول النفس أو كثرة الإنتاج، و أثرهم في هذه الناحية لايكاد يختلف كثيراً عن أثر التيار الإحيائي الذي شهدته البحرين على مفرق القرنين(التاسع عشر والعشرين)، وكان على رأس الرعيل الأول من هذا التيار جماعة من الشعراء ذوي المنبت التقليدي يجيء في مقدمتهم إبراهيم بن محمد الخليفة و مجدي عيسى الخليفة و سلمان التاجر، كما كان على رأس الرعيل الثاني منه عبدالله الزائد و عبدالرحمن المعاودة (البحرين) و عبدالعزيز الرشيد و خالد الفرج (الكويت)، و إذا كان الرعيل الأول يتميز بنزعة تراثية إحيائية تتبدى في الجنوح إلى الأغراض الشعرية التقليدية مع جزالة الأسلوب ومتانة العبارة وانتقاء الألفاظ الرنانة والنبرة الحماسية في القصائد الوطنية بخاصة، فإن الرعيل الثاني من هذا التيار كان أوفر قسطاً من نزعة التجديد ممثلة في الجانب المضموني بالذات، حيث تشتد الدعوة إلى الإصلاح، و تعلو درجة المناداة بتنشيط الحركة العلمية و التعليمية، و الحضّ على الصحوة الوطنية، دون أن تنال هذه النزعة التجديدية من ميل هذا التيار إلى التنويه بالماضي و استدعائه في الأعمال الشعرية و استنطاق أمجاده و بطولاته استنطاقا فنياً و فكرياً، و لعل لكل هذا صلة باستحصاد عود الحركة الوطنية في البحرين علىيد الشيخ عبدالوهاب الزياني و زملائه، بالإضافة إلى خصوصية أخرى تمثلت في أسبقية البحرين إلى بعض مظاهر التحديث المدني كالتعليم والأندية الاجتماعية والمرافق الصحية.

 

وفي بيئة أخرى من البيئات الخليجية كالبيئة الإماراتية قد لا يتوفر لنا من المصادر ما يعين على تحديد مرحلة البدء و كيفية النشأة التي مرّبها الشعر في هذه الحقبة، و لكننا على شبه اليقين من أمرين: أولهما أن شعراء الثلث الأخير من القرن التاسع عشر الذين ولدوا في دولة الإمارات الحالية كان معظمهم من منطقة الحيرة، و هي منطقة سكنية و تجارية، و تقع على ساحل البحر شرقي مدينة الشارقة، و قد كانت تمثل مركزاً للتجارة، كما كانت ملتقى القوم بجميع فئاتهم، أما ثانيهما: فهو أنه على الرغم من عدم الإلمام بكل وجوه النشاط الإبداعي في هذه البقعة منذ مطالع القرن التاسع عشر، فإن من المقطوع به أن هذا النشاط قد بدأ قبل نهايات القرن التاسع عشر بزمن يطول أو يقصر، و ربما كان هناك شعراء لم يحالفهم الحظ في حفظ اشعارهم أو نشرها، و قد تكون لدى آخرين مخطوطات لهؤلاء الشعراء لم يكشف النقاب عنها بعد، و في جميع الأحوال لا نعقل أن نقرأ هذا الشعر المكتمل لسالم بن علي العويس، أو خلفان مصبح، أو صقر بن سلطان القاسمي، دون أن تكون لهذا الشعر مقدمات أو إرهاصات أو بواكير تمتد بامتداد القرن التاسع عشر.

 

ومن الملاحظ الجديرة بالتنبه أن هذه المفارقة بين بواعث النهضة وتجلياتها الفنية في معظم بلاد المشرق العربي لا تعدم نظيرا لها حتى في البيئات الإبداعية للمغـرب العــربي، فعلى مفصـــل القـرنين (19-20)استطاعت الحركة السلفية في هذه البيئات أن تحدث هزة في مفهوم الشعر، و انتشرت عبرها أفكار المصلحين المشارقة على اختلافهم، و بدأت تتردد فيها مبادئ جمال الدين الأفغاني و محمد عبده و رشيد رضا، فنتج عن ذلك إقبال الشعراء المغاربة على النظم في موضوعات تعكس هذا الفكر الإصلاحي، و تدعو إلى تحرير العقل، و إنشاء المدارس و المعاهد العلمية، و ما لبث أن خرج إلى الساحة مع العقود الأولى من القرن العشرين بعض المبدعين الذين أطلق عليهم شعراء الشباب، و كان لهؤلاء اتصال بالمدارس الشعرية المشرقية، و خاصة المدرسة الإحيائية، و لعل خير من يمثل هذا المنزع الإحيائي في شعر النهضة المغربية الشاعر محمد المختار السوسي، و هو بالقطع ليس الصوت الوحيد في هذا المقام.

 

لقد شهدت ساحة الشعر العربي في بلاد المغرب منذ مطالع هذا القرن ضروبًا من الجدل الحيّبين القديم والحديث، يناظر في مغزاه وأهدافه ما كان سائدًا على الساحة المشرقية منذ خواتيم القرن التاسع عشر، و كانت هذه الضروب من الجدل مدينة ببواعثها لمظاهر التطور الذي شمل أقطار المغرب العربي على شتى الأصعدة الاجتماعية والثقافية و الفكرية بتأثير الحركة الوطنية، و نشاط التيار النقدي الذي أفضى إلى تغييب المفاهيم الفنية القاصرة و الاستعاضة عنها بإعمال بعض المقاييس و المصطلحات الفنية الجديدة لحينها، كالخيال الشعري، و آلية الإبداع، و الحوار الخلاق بين الذات الشاعرة و الذات الجماعية، و كلّها إشكالات فنية كانت مطروحة على الساحة الشعرية في المشرق، مع تفاوت توقيت الطرح، و تباين في درجات حرارة الحوار و تفاصيله.

 

بيد أن هذا الاختلال الزمني المتمثل في تفاوت مطالع النهضة الشعرية عبر الأصقاع العربية المختلفة لم يفضِ إلى اختلال مضمون هذه النهضة من حيث هي جدل حيّ بين ذاكرة التراث وروح العصر، و حوار دائب بين الماضي و الحاضر، و قفز فوق عصور الضعف لمحاكاة أروع معطيات القديم يواكبه إحساس بهموم العصر و مكابدات البيئة، هكذا نفهم معارضات البار و ديلل نابغة وأبينواس والمتنبي و أضرابهم، في الوقت الذي يحدثنا فيه عن «الثورة العرابية» و «الغربة فيسرنديب» و «مقياس الروضة»، و في الإطار نفسه نفهم معارضة شوقي لنونية ابن زيدون في الوقت الذي لا يفتأ يصوب حدقته الشعرية إلى مؤرقات سياسية واجتماعية كمشروع «ملنر» و «تحية المرأة» و «الهلال الأحمر» و «الجامعة المصرية» و ما إلى ذلك. بل إننا حين ننتقل إلى بيئة شعرية أفضت ظروفها إلى تمّهل خطوات النهضة فيها قليلاً كبيئة الشعر العربي في المملكة العربية السعودية نجد أن انتظار مطالع هذه النهضة الشعرية حتى بدايات القرن العشرين لم يخرج بمنطق مضمونها عن منطق سابقتها في مصر، فالشعراء الذين حملوا على عواتقهم مهمة التجديد و التأسيس للقصيدة السعودية الحديثة من أمثال حسين سرحان، و حمزة شحاتة، و محمد حسن فقي، و طاهر زمخشري... كان جناحا الخيال الفني في معظم إنتاجهم يتوزعان على الدوام بين المعاصرة والتراث، على تفاوت في حظوظهم من كليهما، و نفس الملمح نلمحه في بيئة شعرية محدودة المساحة نسبياً كالبيئة الكويتية، إذ لم تهب رياح التغيير الحقيقي على شعرها الفصيح إلاّ من خلال ازدياد الاهتمام بالتعليم و تشعب و سائل الاتصال الثقافي بالخارج، و نمو الوعي السياسي الذي  أنتج المجلس التشريعي سنة 3891، آنذاك أصبحت الظروف مهيأة لظهور كوكبة الشعراء الذين مثلوا لبيئتهم ما مثلته حركة الإحياء في مصر وما مثلته نظائر هذه الحركة في بقية الأقطار العربية، و إنك لتعجب حين تطالع إنتاج شعراء من أمثال: صقر الشبيب، و خالد الفرج، و محمود الأيوبي، و عبدالعزيز الرشيد، و أضرابهم، فتجد ما وجدته من قبل لدى الإحيائيين في المشرق العربي من وعي بالموروث و المعاصر معاً، و مراوحة بين القديم و الجديد كليهما، و جمع بين الأغراض التقليدية كالمدح و الغزل من ناحية، و الإسهام المؤثر في التعبير عن القضايا الاجتماعية و الوطنية من ناحية أخرى، و إذا كانت الأغراض التقليدية في إبداعات هؤلاء مما لايحتاج إلى إشارة فربما اقتضى الأمر تنويهاً ببعض ما عالجوه من مشكلات العصر، كمعالجة خالد الفرج لمشكلة الماء، و معالجة صقر الشبيب لقضايا التعليم و الغلاء و غيرهما مما كان يؤرق البيئة آنذاك.

 

و لم يكن الشعر العربي في اليمن استثناء من هذه المقولة الرابطة بين النهضة الوطنية وتطور الوعي الفني، الأمر الذي يفسر تريّث الطفرة التطورية في الاندياح عبره حتى مطالع الأربعينيات من هذا القرن، على حين كان منذ عقود سابقة أسير عزلة صعبة فرضتها عليه ظروف القهر و التخلف، حتى لينصرم الجانب الأكبر من النصف الأول للقرن العشرين و الشعر في اليمن بمنأى عن مجمل التطورات العميقة التي طرأت على واقع القصيدة العربية في بقية أقطارها، و لعل من أبرز الروّاد الذين حاولوا كسر طوق هذه العزلة و وضْع الشعر العربي في اليمن في مكانه من خريطة التطور الطبيعي الشاعر الثائر محمد محمود الزبيري، الذي لخّص الخيارات الفنية أمام أبناء جيله في طريقين لا ثالث لهما: الرضوخ أو الثورة، و قد اختار الطريق الأخير باعتباره السبيل أمام كل إبداع حقيقي، و من بعده سار على الدرب فيلق من سدنة الشعرالعربي الحديث في اليمن نذكر منهم أحمد الشامي و إبراهيم الحضراني و عبدالله البردّوني و محمد سعيد جرادة و عبدالرحمن فخري و عبدالعزيز المقالح، و غيرهم ممن استطاعوا أن يتمثلوا - و في توقيت مختلف - تجارب سابقيهم و أقرانهم في مصرو الشام و العراق، كما استطاعوا أن ينتقلوا بالقصيدة العربية في اليمن من طورها الإحيائي إلى طابعها الإيحائي.

 

آية ذلك أنه إذا كان الاقتران بين النهضتين الوطنية و الفنية يمثل ملمحاً مشتركاً بين معظم إن لم يكن كل البيئات الإبداعية في عالمنا العربي الحديث، رغم اختلاف البدايات هنا أو هناك، فإن ثمة ملمحاً مشتركاً آخر لايقل عن هذا أهمية، نعنى به تلبّس حركات «الإحياء الشعري» في هذه البيئات برداء «العودة إلى التراث» و « محاكاة» النماذج العليا في أزهى عصور الماضي و أكثرها تألقاً، بدءاً من العصر الجاهلي و حتى غروب العصر العباسي و سقوط بغداد في أيدي التتار سنة 656 ه، و على كثرة ما تحمله هذه «العودة» من معان فإنها تشير بالذات إلى قيمتين لا بأس من توكيدهما باعتبارهما من أبرز السمات الجمعية التي تخترق تربة الشعر العربي الحديث على اتساعها، و أولى هاتين القيمتين أن فجر الشعر العربي الحديث لم يخرج عن سنن النهضات الأدبية العالمية في «الرجعة إلى الماضي» حين تهم بالانطلاق منه إلى آفاق المستقبل، و من ثم قد يبدو و كأن آداب الأمم تسلك في بدايات تطورها طريقاً معكوساً إذ تنحو إلى التغيير فلا تجد سبيلاً إليه إلا بمحاكاة أروع النماذج التي حفظها تاريخ هذه الأمم، و ليس أدل على ذلك من أن مطالع النهضة الأوربية إبان القرنين الخامس عشر والسادس عشر لم تؤد تلقائياً إلى ازدهار الآداب القومية، بل أخذت في البداية شكل «إحياء» ثقافي لتراث الماضي.

 

أما ثانيا لقيم التي تعكسها هذه «العودة إلى التراث» فهي أنها عودة لا تخلو من مغزى حضاري حين تتخذ من هذا «التراث» سلاحاً لها في مواجهة الآخر ـ «الأوروبي على وجه الخصوص»  الذي كان يحاول في هذه الحقبة نسخ ماضيها و مسخ حاضرها، كما لا تخلو من مغزي تاريخي فحواه توكيد الذات العربية بأبرز وأعرق ما يجلو هويتها و يعمق أصالتها، نعني «القول المنظوم»، الذي اعتبرته هذه الذات «ديوانها» الذي لا يعتريه مسخ و لا نسخ و لا تحريف.

 

(2)

 

و لا تشترك بيئات الشعر العربي الحديث في بدايات الإحياء و ظروفه و مضامينه و جمالياته فحسب، بل إنها حين تدرجت من مرحلة «الوعي بالذات» في قالبها الإحيائي، إلى «توكيد الذات» في إطارها الرومانسي تكاد تكون خاضعة لنفس الروافد، و نفس منابع التجربة الوجدانية، و ربما لم يكن من قبيل الإسراف في التبسيط أن نشير إلى أبرز المنابع التي شكلت «الوجدان الجمعي» للشعراء العرب على تنوع مواطنهم في فترة ما بين الحربين العالميتين، نعني بهذه المنابع تجربة المهجريين، ثم تجربة الديوانيين، ثم تجربة الأبوللونيين، و على حين كان إبداع «جبران خليل جبران» هو أبرز خيوط التجربة المهجرية التي ضفر منها الشعراء العرب رداءهم الرومانسي في الحقبة المشار إليها، حتى ليزعم مارون عبود أنه «مؤسس مدرستين في لغة الضاد: الرومانتيكية والرمزية»، وحتى ليحصر فيه إلياس أبوشبكة مصادر إلهامه، نرى الديوانيين يتميزون بجمعهم بين «الدعوة النقدية» و محاولة «تحقيق النموذج الإبداعي»، وقد نجحوا بهذا و ذاك في لفت الأنظار إلى منابع الثقافة الأجنبية فيما يتعلق بالشعر و نقده، كما أعانوا على تبصير الشعراء بالجانب الوجداني في التجربة الشعرية، و أكدوا مقولات أن الشعر قيمة إنسانية و ليس مجرد قيمة لسانية، و أنه تعبير، و أن الشاعر الذي لا يعبر عن نفسه إنما هو إلى التنسيق أقرب منه إلى التعبير، أما القصيدة في أبسط و أدق مفهوماتها فهي عمل فني تا ميكمل فيه تصوير خاطر واحد أو خواطر متجانسة، كما يكمل التمثال بأعضائه، و الصورة بأجزائها، و اللحن الموسيقي بأنغامه، بحيث إذا اختلف الوضع أو تغيرت النسبة أخل ذلك بوحدة الصنعة و أفسدها.

 

و لسنا نريد أن نزجّ بهذه التوطئة في حوار شكلي مبعثه الاختلاف على زعامة التجديد في الشعر العربي الحديث، و هل تأثرت جماعة الديوان بالمهجريين، أو بخليل مطران، أو أنها شيدت بناءها النظري من لبنات غير تلك التي وضعوها، فمن المعتقد أن «الخليل»، شأنه في هذا شأن المهجريين، كان شاعراً أكثر منه داعية تجديد، و أن تصوره لشعر «يقال فيه المعنى الصحيح في اللفظ الفصيح، و لا ينظر قائله إلى جمال البيت المفرد، بل ينظر إلى جمال البيت في ذاته و في موضعه» كان من الإجمال بحيث لا يستطيع خلق نظرية شعرية شاملة، و أنه لكي يؤتى أكله كان بحاجة إلى حركة نقدية منهجية تواكبه، و قد تمثلت هذه الحركة المنشودة في جماعة الديوان التي كانت أول حركة نقدية في شعرنا الحديث تبني نشاطها على أسس فنية مدروسة، و قد كانت هذه الحركة وجها من وجوه التجديد، و لكنها لم تكن كل وجوه التجديد، و إذا كان لمطران، و للمهجريين، فضل وضع النموذج الشعري الرائد، فقد كان لها فضل النظرية و التقنين، و لو لم توجد جماعة الديوان لوجب أن توجد حركة أخرى تقوم بما قامت به، لأن التجديد ليس نزوة طارئة تعرض لقطاع واحد من قطاعات الفكر، و إنما هو تيار شامل يستغرق وجوه المعرفة بدرجات متفاوتة.

 

و حتى في هذا المقام لا نعدم وجها آخر من وجوه المفارقة، فمن الملحوظ أن محاولات «الخليل» و «الديوانيين» في التجديد إن كانت قد ارتكزت في الأصل على أساس من الاحتفاظ بقيم اللغة و أساليبها، فإن نظائرها في المهجر الأمريكي قد انطلقت إلى حدّ ما من قيود اللغة، و كان من نتيجة ذلك شعر بدأ يفرض سيطرته على العالم العربي في أعقاب الحرب الكبرى الأولى، حتى إذا انهارت الرابطة القلمية و انتثر عقد زعماء المدرسة العربية بأمريكا، قامت في الشام و مصر محاولات شعرية هي وسط بين الاتجاه المطراني و الديواني من جهة، و الاتجاه المهجري من جهة أخرى، و تمثلت في آثار عمر أبيريشة و علي الناصر بسورية، و إلياس فياض و أمين نخلة و سعيد عقل و صلاح لبكي في لبنان، و حسن كامل الصيرفي و بشر فارس في مصر، و في شعرهم جميعاً يتجلى ما تجلى في نقد و إبداعات الرواد من ألق رومانسي يغمر ماهية الشعر و وظيفته معاً.

 

و ليس من شك في أن هذا التصور الجديد لماهية الشعر و وظيفته، بالإضافة إلى المقولات النقدية التطبيقية التي تضمنها كتاب «الديوان» بجزأيه، قد أحدث من الدويّ في أبعاد الساحة الشعرية ما غمر القاصي و الداني، إلى حدّ أننا لا نخطئ بعض هبّات هذا النفح الرومانسي الديواني في بيئات إبداعية لم يكن من المتوقع أن يبلغها، و تستطيع أن تطالع ماشئت في صفحات شعر الشاعر السعودي حمزة شحاته (1910 - 1970)  لتتأكد من عمق الوشائج التي تربطه بالديوانيين، سواء في الحساسية المفرطة و المزاج المتشائم، أو الميل إلى التأمل و الشكوى، أو فلسفة العلاقة العاطفية بين الرجل و المرأة و تلوينها بأصباغ ذهنية واضحة، أو الرؤية الإنسانية للكون عبر مطولات شعرية حافلة بالاستغراق الذهني و استقصاء المعاني، على غرار ما كان يفعل العقاد و شكري.

 

ناهيك عن أن الديوانيين قد أثّروا بنموذجهم الإبداعي المتمثل في النأي عن شعر المناسبات و المدائح و الأهاجي، و اللواذ بالأصقاع الغريبة في التجربة الشعرية كالتأمل في الحياة و الموت و البعث، و الإيغال في أغوار النفس بكل ما تحفل به من الشك و الحيرة و البغضاء و الحب و الألم، و الالتصاق الحميم بالطبيعة و التوالج معها إلى درجة الحلول الفني الخالص أثروا بكل ذلك، و بأقدار متفاوتة، في عديد من بيئات الإبداع الشعري العربي، و إذا كنا قد ألمحنا إلى بعض مظاهر هذا التأثير في الشعر السعودي فإننا واجدون نفس «العبق الرومانسي» في الشعر العربي في (سورية ولبنان) في فترة الثلاثينيات و الأربعينيات، و إن يكن الدَّيْن في هذه الحالة لا يعود لحساب الديوانيين وحدهم، بل يعود إليهم وإلى المهجريين من قبلهم، كما نجد بعض آثار هذا العبق في نفس الفترة، و لكن في بيئة إبداعية أخرى كبيئة الشعر العربي في الكويت منذ أواخــر الثلاثينيــات، و فـــي نتاج شعــراء مـــن أمثال فهد العسكـر(1913-1951)، و أحمد العدواني (1923-1990) و عبدالمحسن الرشيد (1926- ....)، إذ ينضح شعرهم جميعاً بالأقانيم الرومانسية المعهودة، من ولوع بالشكوى و التمرد، و لجوء إلى الطبيعة، و البحث الدءوب عن الخلاص، هذا إلى محاولة تحرير المعجم الشعري من الصيغ الجاهزة و خلق علاقات بين الوحدات التعبيرية التي راحت تعتمد على المزاوجة بين الماديات والمعنويات، و المحسوسات و المعقولات، و إقامة بنية الصورة الشعرية على محاور التبادل و التراسل بين مجالات الحساسية، و الميل إلى مجزوءات البحور و اتخاذ المقطوعة أحياناً ـ وحدة لنظام القصيدة.

 

بل إن شمولية العبق الرومانسي لبيئات الشعر العربي حقبة ما بين الحربين لا تكاد تتفلت منها حتى الأصقاع النائية في العالم العربي، إلى درجة أن أبرز ممثلي الشعر العربي في الشطر المغاربي، و هو الشاعر أبو القاسم الشابي، كان لا يفتأ يتملى بما في إبداع العقاد من «صور الفن ومثل الحياة»، على حد تعبيره الخاص في إحدى رسائله، كما كان شديد الإعجاب بما في شعر العقاد من «فلسفة ناضجة في الحياة والناس، و غزل مطلول و وصف شامل نفاذ، و سخر لاذع عميق»، و إذا كان لابد من تحفظ في هذا المقام فهو أن الديوانيين، ناهيك عن المهجريين، لم يكونوا وحدهم روافد هذا النفح الرومانسي الذي بلغ مدّه أرجاء المغرب العربي، بل يضاف إلى هؤلاء وأولئك تأثير الأبوللونيين الذين لم يكن العبق الرومانسي لديهم مجرد صد ىيتردد في فراغات الساحة الشعرية العربية، بل شارك الشعراء من هنا وهناك، و من المشرق و المغرب، في خلق هذا العبق و تنويع مساراته، و ليس بعيداً في هذا المجال مرة أخرى نموذج أبي القاسم الشابي في الجناح الغربي للوطن العربي، فقد كان فرعاً رطباً في دوحة جماعة أبولو، و أسهم في مجلتها الذائعة عبر ثمانية عشر شهراً بثماني عشرة قصيدة، و تحقق في شعره و شعر بعض مواطنيه ما تحقق في شعر غيره من شعراء العربية آونة ما بين الحربين، من تصعيد للنزعة الذاتية الرومانسية، و زحزحة الكثير من الثوابت الجمالية و الفكرية التي اتكأت عليها القصيدة الكلاسيكية، و ترطيب للغة الشعرية بماء الحياة و أنداء الروح الشاعرة. لقد انداح عبر الذات الفردية مدى جديد تحركت فيه القصيدة العربية ناضحة بالأمل والألم والشكوى والحنين، وبفضل هذا التكثيف للمتح النفسي غدت «الأنا» محور القول المنظوم لدى رواد الرومانسية العربية في عديد من بيئات الإبداع الشعري.

 

كانت الرعشة الرومانسية إذن ملمحاً مشتركاً بين المراكز والأطراف في خريطة الشعر العربي إبان الثلاثينيات والأربعينيات من هذا القرن، حتى تلك المساحات التي كانت قنوات اتصالها بالثقافات الأوربية محدودة نراها تتأثر بتلك الرعشة «سماعاً» كما تأثر بها غيرها «عياناً»، صحيح أن «الهاجس الرومانسي» كان هاجساً وافداً يخترق جسم الشعر العربي دون جذور، و من ثم لم يكن ليتسنى التشبع به إلا بإتقان اللغات الأجنبية التي حملته و كانت وعاء له، و هو إتقان لم يكن متاحاً لبيئات الإبداع العربي بأقدار متساوية، و مع ذلك ينبغي أن لا ننسى أن النقاد ورعاة الشعر في هذه البيئة أو تلك من مراكز التأثير في مصر أو الشام قاموا بهذا العبء عن إخوانهم، و حملوا إليهم بطريقة غير مباشرة ما لم يصل إليهم من روافد الثقافة الأجنبية بطريقة مباشرة، و اقرأ إن شئت بعض ما أبدعه الزمخشري أو الفلالي أو قنديل، أو غيرهم من شعراء السعودية بين الحربين لتتأكد كم تأثر هؤلاء بالمزاج النفسي الذي غلف مشاعر غيرهم من الشباب العربي المثقف في هذه الآونة، فاصطبغت أشعارهم بأصباغ ذاتية حائرة، و لونت الكآبة قصائدهم، فهربوا منها إلى الطبيعة تارة، و إلى عوالم الخيال تارات.

 

ورغم سلامة المقولة الآنفة عمومية الرعشة الرومانسية حقبة ما بين الحربين في جملتها، فإن الباحث المتجرد لا يسعه إلا أن يقدم بين يديها ثلاثة تحفظات جوهرية: أولها تفاوت التخوم الزمنية للرومانسية بدءاً و انتهاءً، و هو أمر سبق أن لحظناه بالنسبة إلى الحركة الإحيائية، ثم هو أمر طبيعي في ضوء اختلاف الظروف و المناخات بين أقطار الوطن العربي، فإذا كان الهاجس الرومانسي قد ألمّ بالشعر العربي في مصر مع بدايات القرن العشرين وظل مخامراً له حتى بواكير الشعر الجديد في مطالع الخمسينيات، بل وبقيت بعض رواسبه بعد ذلك تتموج في قرارة ما يبدعه محمود حسن إسماعيل و عبدالرحمن الخميسي و غيرهما، فإن هذا الهاجس لم يتجل بكامل وضوحه في الشام (سوية ولبنان) إلا مع مطالع الثلاثينيات، في إبداعات أنور العطار، و عمر أبيريشة، و إلياس أبيشبكة و أضرابهم، و لكنه في الوقت الذي ينحسر مده عن الساحة السورية من بداية الستينيات، و ربما تحت تأثير الهم السياسي بخاصة، فإنه بقي يترقرق بكامل عذوبته و شجنه في جنوبي البلاد (الأردن وفلسطين) عبر أصوات من أمثال فدوى طوقان، و كمال ناصر، و مطلق عبد الخالق، و حسن البحيري، و لم تغادر بعض هذه الأصوات ما فرضته على نفسها من أحاسيس العزلة و الانكفاء إلا غداة هزيمة حزيران (يونية ) 1967، هذا على حين نجد نفس الهاجس الرومانسي على الساحة اللبنانية و قد نما و اشتد عبر فترة وجيزة، ثم راح يختلط بسواه من الأخلاط المذهبية كالرمزية التي انطلقت شرارتها المذهبية من قداحة الشاعر اللبناني أديب مظهر ممثلة في قصيدة نشيد السكون  1928، و بدأت هذه الشرارة تفعل فعلها في ناشئة لبنان من الشعراء، و بخاصة أن وسائل الاطلاع على نماذج هذا المذهب و غيره من المذاهب الأدبية كانت قد تهيأت للبنان أكثر مما تهيأت لغيره من بيئات الإبداع العربي، بعد أن توطد نفوذ الثقافة الفرنسية فيه إبان الانتداب، و هكذا و في ظل هذا الزخم المذهبي أتيح لسعيد عقل أن ينظم مطولاته الشعرية (قدموس، مريم المجدلية)، كما أتيح لصلاح لبكي أن ينظم مجموعته الشعرية الذائعة «أرجوحة القمر 1938».

 

و اختلاط الرمزية بالرومانسية على هذا النحو يفضي بنا إلى تحفظ آخر لايقل عما سبقه أهمية، ذلك أن النزوع الرومانسي في شعر ما بين الحربين مع تفاوت آماده لم يكن أبداً نزوعاً صافياً، ناهيك عن أن يكون نزوعاً مذهبياً كذلك الذي جربته الآداب الأوربية، لقد أخضعته بيئات الإبداع العربي لمنطقها تارة، كما هجّنته ببعض من اللقاحات المذهبية الغريبة عنه تارة أخرى، و يبدو أن الشعر العربي عند هذه النقطة قد تعجل قطع مسافة التطور التي مرت بها الآداب الأوربية، إذ ما كاد يخطو بضع خطوات على طريق الرومانتيكية بمعناها الحديث، حتى وجد الظروف مهيأة لكي يضيف إلى الرومانتيكية مؤثراًجديداً، هو الاتجاه الرمزي مرة، والاتجاه الواقعي مرة أخرى، و لعل في هذا «التزامن» المذهبي تأويلاً لما نلحظه في الشعر العربي في لبنان و سورية خلال حقبة الثلاثينيات من ميل إلى جديلة فنية من الكلاسيكية مع الرومانسية آونة، و ضفيرة من الواقعية مع الرومانسية آونة آخرى، حتى حلا لبعض الباحثين أن يصور ذلك التلاقح باعتباره قواماً جديداً هو «الكلاسيكية الرومانسية» أو هو «الرومانسية الواقعية» مع ما في تسمية كليهما من مفارقة ملحوظة، ثم لعل في هذا تأويلاً ـ أيضاً ـ  لتزامن المنزع الكلاسيكي مع الهاجس الرومانسي في بيئات إبداعية أخرى كبيئة الشعر العربي في كل من الكويت و السعودية، و بيئة الشعر العربي في جنوبي الشام، ناهيك عن الشعر العربي في مصر الذي بدا فيه هذا التوالج في تمام وضوحه حين كان القارىء المثقف لا يكاد يطالع في الدوريات الأدبية قصيدة لأحمد الكاشف أو لأحمد الزين أو لغيرهما من أتباع الإحياء الكلاسيكي إلا ريثما ينتقل منها إلى قصيدة لعبد الرحمن شكريأ و علي محمود طه أو محمود حسن إسماعيل،أو سواهم من ذوي البوح الرومانسي الصريح.

 

و تحفظ ثالث، ربما كان جديراً بالتقديم، ذلك أن أقدار هذه البيئات الإبداعية من ذلك البوح الرومانسي كانت متفاوتة، تفاوت ظروفها السياسية و الاجتماعية و تفاوت حظوظها من الثقافات الأجنبية، و على سبيل المثال فقد تحول هذا البوح في مصر و لبنان إلى تيار زاخر عبّ منه الشعراء عباً على حين لم يستطع أن يحفر في تربة الشعر العربي في العراق سوى أخدود صغير راح يرتشف منه شعراء من أمثال علي الشرقي و عبدالقادر الناصري و أكرم الوتري و حافظ جميل، لقد كانت الساحة العراقية آنذاك مثقلة بالهم السياسي الذي جسدته الحركات و الانقلابات المتوالية، فلم يجد الهم الرومانسي فضاء رحباً ينطلق فيه، بل لعله، لولا تلك الأخاديد الصغيرة، لم يكن ليجد فضاء على الإطلاق.

 

 



(3)

 

والنقلة الجذرية في تطور القصيدة العربية آية أخرى من آيات «الاستطراق» بين البيئات الإبداعية العربية، و شاهد حي على «عمومية الملامح» في جماليات القصيدة العربية الحديثة، و هي نقلة بدأت في أواخر الأربعينيات، و استمرت حتى الآن، عبر مراحل مختلفة، وبتجليات متفاوتة، عنَيْنا بذلك حركة «الشعر الجديد» أو «الشعر الحر» كما ذاعت تسميته، أو «شعر التفعيلة» باعتبار الأدق في التوصيف من الناحية العلمية.

 

لقد كان النموذج المتبع في تشكيل القصيدة العربية حتى العقود الأولى من هذا القرن أن يلتزم الشاعر بالإيقاع و الوزن كليهما، بحيث تتساوى الأبيات في نوع التفعيلة المتخذة أساسا ًللإيقاع، و في عدد التفعيلات


Top